- saed alakkad
- 1:32 ص
- المتحف في الاعلام
- لاتوجد تعليقات
متحف صغير وذاكرة شاسعة: مع وليد العقاد
مرّ ربع القرن، على رحلة، تتوغل في الماضي، بدأها وليد العقاد، المواطن الفلسطيني، الذي جعل هاجسه اليومي، جمع وتنسيق ما تصل اليه يده، من شواهد أثرية، ومن ملامح مادية لحياة السلف؛ والمحافظة عليها، ليصبح متحفه الصغير، رافداً يصب في السياق العام، لحكاية بلادنا وحضارتها!
كأن المثابر، المتوافر على تراث وطنه وأهله، وليد العقاد، قد التقط فكرته، من عُسف الاحتلال، ليؤسس مرافعته الخاصة، المقرونة بالأدلة، ضد منطق هذا الاحتلال ومزاعمه. فكلما جئنا ببراهينا، على التصاقنا الأزلي، بالأرض، وعلى حياتنا المزدهرة فيها، وعلى مقدرتنا الباهرة، على استيعاب وتمثل الحضارات، التي وطئت أرضنا، غازية أو عابرة؛ كلما تعززت براهين جدارتنا في الاستقلال، وفي الحرية، وفي مستقبل مشرق. فذات يوم، جاء الجنود المحتلون، لكي يقتادوا شقيق وليد، الى السجن. وعند دخولهم الى البيت، وقع نظر الضابط، على حجر من بناء بيزنطي، كان المرحوم والده، قد نقله من وسط فلسطين، الى طرفها في خان يونس. وكان طبيعياً، أن يتناسى الضابط هدفه الأصلي، الذي هو شقيق وليد، لكي يأمر بنقل الحجر فوراً الى السيارة، ومن ثم يكون إلقاء القبض على الشاب المستهدف. ربما في تلك اللحظات، ولدت في نفس وليد، عزيمة التشبث بالشواهد، التي يُعنى المحتلون بانتهابها أو انتحالها، وهي عزيمة تنتمي الى جنس المقاومة، كفعل عقلاني، يُكرّس الحق، بالأدلة الدامغة، وبالإيثار. أي أن الضابط الاحتلالي، رفع الحجر، لينقطع الأثر، لكنه رمى الفكرة، لكي تتفتح الآثار والشواهد!
* * *
في منزله ذي الأنموذج الريفي، وضع صاحب المتحف، مقتنياته، في قسمين، أحدهما للتراث، والثاني لآثار من العصور الغابرة، ومن الحضارات الهيلينية، والرومانية، والبيزنطية، والإسلامية. وأمام بيت المقتنيات العتيقة، أقام وليد "بيت الشَعَر" التقليدي، الذي سكنه الإنسان العربي القديم، دون أن تغيب، أيٌ من الأدوات والآنية، التي استخدمت في حياة البداوة، سواءٌ تلك التي خصصت للراحة وللاستظلال، أو لخض لبن الماعز، وتجهيز القهوة، والتهيؤ للسمر!
ومن بين مقتنيات التراث، حضرت الأدوات الموسيقية، كاليرغول والربابة والشبّابة، ومعها الأدوات الزراعية التقليدية، كالمنجل، والمحراث، والهوجل والمدراة. وما يزال سرج حصان الجد، وسيفه، ثم بارودته، وحافظته الجلدية الثقيلة، التي استُجمعت طبقاتها، بمسامير مسطحة الرؤوس، ضمن هذه الشواهد لحياة عائلة، وشعب، وأمة!
الإيثار الذي أشرنا اليه، في صنيع وليد العقاد، يُعبر عن نفسه من خلال وقف قطعة الأرض الموروثة، للحفاظ على ذاكرة جماعية للناس، وعلى ملامح البيت الفلسطيني التقليدي، في هذا المكان من بلادنا، التي تتعدد فيها ـ على الرُغم من صغر مساحتها الكاملة ـ الأقاليم المُناخية والبيئية. فأرض الفناء، رملية متماسكة، تحفها الأشجار، مثلما كان حال فناء البيت العادي المتواضع، منذ قرون، وحتى النصف الأول من القرن الماضي، حيث كانت النساء تكنسنه بـ "قنوْ" ناشف، كان عرجوناً محمّلاً بالبلح. فالأرض الموروثة، أوقفت لتحكي الرواية، ولمنفعة المتأملين والدارسين، وهي ليست كالأرض الممنوحة أو المُنتزعة، التي خصصها الممنوحون والمنتزعون، لبناء الفيلات، ولمنافع فردية!
ومن خلال هذا الصنيع، للمواطن الفلسطيني وليد العقاد، ترتسم المفارقة، التي جعلت للرجل من اسمه نصيب. فالعقاد، الكاتب المصري المرموق، تجلت مأثرته بالقفز عن قيود وظيفته الحكومية، في مصلحة التلغراف، وعن قصور تعليمه النظامي، الذي توقف عند الشهادة الإبتدائية، ليخوض في التراث الإنساني، لمختلف الحضارات، وفي الأديان، ويكتب، ويحقق، وينظم الشعر، لتنعقد له، حياة قلم، مفعمة وزاخرة، بالمعارف التي ما تزال هادية للمستزيدن من الثقافة. أما العقاد، صاحب المتحف، فقد قفز عن مصاعب شتى، من بينها ضيق ذات اليد، ليُنشيء متحفاً، ولكي يحفظ ذاكرة، فيستجمع لها شواهدها وبراهينها المادية. وما يزال الأمل يحدوه، بأن يتحصل على إمكانات التقنية المستخدمة، لحفظ الآثار والمقتنيات، وأن يطوّر ويوسع متحفه، وأن يصبح المكان موصولاً بمراكز الإعداد الفكري والثقافي، للناشئة، لكي يتعرفوا على الملامح القديمة لوطنهم، مثلما هي في العادة، وظيفة المتاحف. فالسائحون الأجانب، يأتون الى الشرق، لكي يتأملوا الطفولة البشرية، عندما كانت تحبو، وتغالب الطبيعة، وترسّخ حياتها. ومن باب أولى، أن يُصار الى تشجيع ودعم أي متحف، يتأمل من خلاله اللاحقون، حياة السابقين؛ يقوم من خلال مجهود شخصي، ينم عن سخاء ووطنية!
http://www.adlisadek.net/body.asp?id=471
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق